|

الرقابة المترية

الكاتب : الحدث 2024-04-06 03:39:56

بقلم ـ فريال الوادعي 

في خضم زحام المقاطع اليومية التي تردنا في وسائل التواصل لفتني مقطع لموظفة في جمهورية الصين الشعبية كما ذكر في وصفه تؤدي عملاً ضمن عدة موظفين يحظى كل منهم بمساحة عمل خاصة؛ لا تتجاوز نصف المتر المربع، وأمامها جهاز الحاسوب رفيقها في إنجاز مهامها، توقفت الموظفة عن العمل بلغة جسد توحي بجهد أنهكها، ثم همت بالوقوف لتحدث شخص آخر لعدة ثوان، ليظهر موقعها إشارة حمراء تحسب مدى توقفها عن العمل حتى يتم حسمه من مرتبها كما ذكر.

وبعيدًا عن صحة الأمر من عدمه إلا أن الأمر استوقفني جليًا وهممت بمشاركته مع إحدى الصديقات اللاتي أثق بنظرتها الثاقبة ويسرني تجاذب أطراف الحديث معها في كل ما يخص الإدارة والقيادة وتطوراتها وسبل نمذجتها، حيث تمحور الحديث حول الرأسمالية والرقابة المترية الناتجة عنه.
تساؤلات كثيرة تواردت إلى ذهني؛ أين الشغف في عمل يشعر الموظف بأنه مراقب دون أدنى ثقة؟! وكيف هي بيئة العمل في جو يسوده القلق؟! 

وتذكرت حينها أول يوم لي في مسيرتي في التعليم معلمة؛ عندما صافحت أروقة العمل باجتماع طلبت فيه المديرة حينها أن يكون مقتصرًا  على المعلمات المستجدات، لتنطلق في حديثها مرحبة بوجودنا, ساردة بعدها شيئا من خبراتها القيمة وصولاً لعدة أهداف هامة كانت تتمحور حول الطالبات ودورنا المتفرد وواجبنا المناط تجاههن، مستدلة بجهود القيادة الرشيدة لتذليل كل الصعاب من أجل أجيال المستقبل، انتهى كلامها القيم بقيمة رسخت في ذهني منذ ذلك اليوم، قالت بثقة:
 لن أراقب عن كثب دخولكن الصف وخروجكن، ولن أستبسل في فتح باب الصف بعد كل برهة زمنية لأوثق تواجدكن وعطاءكن، فمهما كنت ذات حرص وثاب إلا أن عملكم وسمو ما تقدمن هناك رقابة أولى من رقابتي لمتابعتها، هي رقابتكم الذاتية المنبثقة من دواخلكم والتي يتجلى صدقها وسموها في ارتباطها الوثيق بمراقبة الله عز وجل، انتهى حديثها هنا لتنطلق مسيرتنا بدرس دُون في أذهاننا إلى اليوم:"النفوس الجلية تراقب الله ولا تعمل فقط لمصلحة خاصة بل ترنو علواً بمصالح العامة وصلاحها في أداء ما أوكل لها تجاه الآخرين" يقول ابن القيم الجوزية:" العمل بغير إخلاص كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه".

نعم مهما كانت قوة النظام وسلطته لن يستطيع أن يرتقي للرقابة الذاتية ونتائجها التي تصافح الشغف والعمل بحب، بعيدًا عن تحويل الإنسان لروبوت لا ينجز ما أوكل إليه إلا برقابة صارمة.

وقد يكون تفكيري المطلق حول أهمية غرس الرقابة الذاتية قبل سرد النظم والتوجيهات ضرورة ملحة، إلا أنها ومع سنوات العمل وخبرته المتراكمة بدأت تلك القيمة المتجسدة في ذهني بتعميم مطلق يتلاشى تعميمها، فليست للأسف غرسًا لدى الجميع يتكئ عليه، فهناك من يفتقد لقيم الرقابة الذاتية الحقيقة لذلك فالرقابة البشرية والنظم المنظمة لا مناص منها إلا أن تجسيدها "برأسمالية" قد يفقد الرقابة الذاتية دورها المتفرد والأكثر رقيًا وهيبة.

هنا أختم سجال سردي بمقولة للدكتور غازي القصيبي -رحمه الله-
‏لو استبدلنا المقولة الشهيرة : "للجدران آذان".
‏بالمقولة الصحيحة : "للملائكة أقلام"
‏لخرج لنا جيل يراقب الله عز وجل ولا يراقب الناس !