السبعُ العِجاف ..!

بقلم : محمد بن سعيد أبوهتله
----------------------
إنّ السفر الطويل، لا سيّما إذا امتدّ لسبع سنين من عملٍ مرهق، وتتبعها سبعٌ أخرى عجاف (أربع عشرة سنة)، وهنا أقول “سنة” ولم أقل “عام”، فقد ورد ذكر “السنة” في القرآن مقرونًا بالعِجاف واليابسات والشداد، وورد ذكر “العام” بالغوث، ففي قوله تعالى: (تزرعون سبع سنين دأبًا)، والدأب: التعب، وقوله: (ثم يأتي عامٌ يُغاث فيه الناس وفيه يعصرون).
وهذه السبع العجاف المُدبِلة لديّ، فرضت عليّ السفر والتنقّل بين متعرجات الدروب، وقد يكون الصبر على مشقات السفر صبرًا يفوق طاقة الإنسان، ويثير في نفسه الملل والضجر، حتى لا يكاد يرى حياته كلها إلا رحلةً لا قرار لها.
وفي ضوء هذه التجربة المُرهقة، عبّر العديد من الأدباء عن وجع الترحال وما يخلّفه من أعباء نفسية وجسدية.
وقد قال شاعر الحكمة الجاهلي زهير بن أبي سلمى في بداية معلقته التي تعد من المعلقات السبع:
سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يعشْ
ثمانينَ حَوْلًا لا أبا لكَ يسأمِ
ففي هذا البيت تبرز الصورة المكثّفة للضنك في معايش الترحال، حيث تصبح تكاليف الحياة عبئًا لا يُطاق، ولا ترحم الشدائدُ أحدًا، ولو عاش الإنسان أطول مدى من الزمان.
إن من مرارة أن يمتدّ السفر أربع عشرة سنة، أن يتراكم الملل، وتتصدّع أسس الأمل بنهاية الرحلة، فتتحوّل الدروب إلى روتينٍ مُقنّع، والأماكن التي مررتُ بها لا تزيد عن كونها محطاتٍ عابرة في ذاكرةٍ متعبة، تتوالى الليالي، وتُقاس الدقائق بعدد خطاها، ويخفّ في النفس الحافزُ على الاستمرار لهذا الترحال المضني .
حيث شاءت الأقدار ترجلي عن صهوة جواد العمل الحكومي، بعد ربع قرن بالتمام والكمال، قضيتها في خدمة الوطن، كانت مليئة بالطموح والاجتهاد والتفوّق والانضباط، شاركت فيها بالدفاع عن الوطن في مواطن الفخر والعز على حدود الوطن، مرابطًا ومجاهدًا بأكثر من موقع، بكل فخر واعتزاز.
ولقناعتي بأن التقاعد ليس نهاية المطاف – وخصوصًا إذا كان في وقتٍ مبكر، والشخص لا يزال قادرًا على العطاء – وهنا بدأ منعطف جديد، وبداية حياة جديدة، وهو على مسارين:
الأول: العمل الشخصي في مجال العمل الحر، وبفضل الله رزقنا الله فيه بالخير، وهذه قناعة مني، وقد لا يقتنع غيري لو كان في موقفي، وأنا أقول: (الحمد لله). وكما هو معلوم، أن مجال التجارة به خطورة بين مدٍّ وجزر، وصعودٍ ونزول، ولكن قناعتي بالقدر، وأن الرزق موكولٌ من الرزّاق، جعلتني مرتاحًا، ولا يعني لي ذلك الكثير، ولا يؤرقني النزول كما لا أنتشي من الصعود، وهذا فضلٌ من الله مَنَّ به علي، وله الحمد والمنة.
والمسار الآخر: العمل التطوعي بالمشاركة المجتمعية، لما يزيد عن عقدٍ ونصف من الزمان، وهذا العمل يأخذ من وقتي الخاص ومصلحتي الخاصة، لكنني كنت أجد فيه متعة، وأحتسب فيه الأجر، وبه مجتمع خير، فغالب من يشاركنا مجتمعيًا من خيار القوم لحبهم للخير والعمل التطوعي، فجزاهم الله خيرًا.
وشاءت الأقدار أن أنتقل من مدينتي ومسقط رأسي، محافظتي الجميلة ذات السكينة والطمأنينة (أحد رفيدة)، إلى عاصمتنا الرائعة، ذات الجمال والازدحام (رياض الخير)، لظروف الأبناء الدراسية، ولِما فيها من جودة حياة، والحمد لله لم أجد فرقًا في الانتقال، فالمجتمع واحد، والترابط المجتمعي قوي، واللحمة الوطنية بين أبناء مملكتنا الحبيبة قوية وهم كالجسد الواحد. وكأننا أبناء قبيلة واحدة، وهذا بفضل الله، ثم بفضل الملك الموحد عبدالعزيز بن عبدالرحمن – رحمه الله – الذي نقلنا من مجتمع القبائل المتناحرة إلى مجتمع القبيلة السعودية الواحدة، المتآخية المتصاهرة.
ولكن المعاناة كانت في السفر والتنقل بين الجنوب ونجد بمعدل أربع رحلات شهريًا، ولمدة أربعة عشر عامًا، ورغم أنني من هواة السفر، ومنحني الله عز وجل الجَلَد والعزيمة، ولكن… وما أدراك ما “لكن”… لكن بدأتُ أشعر بالملل والألم من كثرة السفر، بدأتُ أشعر بالإجهاد، فلم أعد أضع حقيبة السفر في الأرفف، إنما أضعها قريبًا من الباب تحسبًا لسفرٍ طارئ غير مخطّط، فكم من سفرة لم تُقرر إلا قبلها بساعات، وكم من تذكرة قُطعت بسعرٍ غالٍ نظرًا لقرب موعد الرحلة.
وبدأت بعد هذه الفترة أئنّ من كثرة الأسفار، وكنت أُسلي نفسي بقول الإمام الشافعي – رحمه الله:
تغرّب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرّج همٍ واكتساب معيشةٍ
وعلمٍ وآدابٍ وصحبةِ ماجدِ
ولكن بعد هذا المشوار الطويل، بدأتُ أشعر بالملل والسآمة، وأتذكّر قول زهير كما تطرقت له في بداية مقالي :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولًا لا أبا لك يسأمِ
ورغم أنني لم أصل إلى عمره، إلا أن كثرة أسفاري ربما تجاوزت عمر زهير!
وكم هو مرٌّ ألم السفر، فعندما أودع أحبابي في الجنوب الحبيب، وفي مقدمتهم والدتي الغالية، أشعر بألم الفراق وأراه في أعينهم، وعندما أودع عائلتي وأحبابي في نجد العذية، أرى نفس الشعور. فيا له من ألم! ويا لها من لحظاتٍ مرّة…
وأقول:
مللتُ الدروبَ ومَنْ ودّعتُ خلفي بها
كأنّي أسافرُ والعمرُ شيءٌ يُهدمْ
تعبتُ الخُطى كلّما قالَ لي ركبُهم
هلمَّ نسيرُ، تذكّرتُ أني أُهزَمْ
طريقٌ طويلٌ، وفي كلّ منعطفٍ
أرى الحلمَ وجهًا، وفي لحظةٍ يتلعثمْ
سألتُ الزمانَ: أما آنَ أن أستريح؟
فقال: المُنى ما لها غيرُ قلبٍ يُحطَمْ
فإنْ كنتَ تبغي السكونَ فدعْ رحلتكْ
ولكنْ تهيّأ إذا السأمُ فيك تألمْ
ففي هذه الأسفار، بدأت أشعر بالسأم مرارًا وتكرارًا، بل أصبح رفيقًا ثقيل الظل في آخر سنين ترحالي، يطارد فصولَ الآمال، ويُطفئ جذوة الراحة عند أول وهلة.
يبقى السفر الطويل – خاصة عندما يبلغ عامه الرابع عشر – تجربةً تختبر صبر الإنسان وعزيمته، وإن كان لا مفرّ منه في بعض الأحوال، فإنّ الاعتراف بالملل وتقبّله أولُ خطواتِ البحث عن قرارٍ يردُّ الروح إلى وطنٍ داخليّ، حيث تهدأ النفس بعد عناء السنين.
وما يسليني أنني قد كسبت مكاسب كثيرة خلال السنين العجاف، بصلاح الأبناء – والحمد لله – والتحصيل العلمي، وكسب معارف وصداقات جميلة، وتجربة رائعة في العمل التطوعي، ودعوات ومحبة الناس الصادقين والمحبين، وها نحن على الدرب سائرون، كما قال المثل: “من جدّ وجد، ومن سار على الدرب وصل”.
ونحن نؤدي رسالةً نؤمن بها، حتى نلقى الله، محبين للقياه، وآملين في رحمته ومغفرته.