التقنية .. عين الكفيف وعصاه الذكية

بقلم : عبد الله الكرشم عسيري
----------------------
لم أكن يومًا أرى العالم من خلال عينيّ، لكنني اليوم أعيشه بكل تفاصيله، أقرأ، أكتب، أتنقل، أتعلم، وأتواصل. كيف؟ ببساطة لأن التقنية قررت أن تكون رفيقة دربي، لا تتركني في منتصف الطريق، بل تمسك بيدي وتقول: “أنا هنا لأريك الحياة، بطريقتك”.
في حياة الكفيف، كانت العزلة هي السمة البارزة في الماضي. فكم من كفيف حُرم من التعليم فقط لأنه لا يستطيع قراءة الكتب المطبوعة؟ وكم من موهبة دفنت في الظلام لأن أصحابها لم يجدوا الوسيلة التي توصلهم إلى الناس؟ كنا نعيش في دائرة مغلقة، نحتاج من يقرأ لنا الجريدة، ومن يكتب لنا الرسائل، ومن يرشدنا في الطريق. لكن، حين دخلت التقنية على الخط، تغيّرت المعادلة. أجهزة قارئة الشاشة مثل VoiceOver في أجهزة Apple وTalkBack في Android أصبحت عيونًا ناطقة تقرأ لنا كل ما يظهر على الشاشة، من نصوص وتطبيقات وبيانات، بل حتى الصور باستخدام الذكاء الاصطناعي. لم نعد بحاجة لمن يقرأ لنا الرسائل أو البريد، فالهاتف أصبح يفعل ذلك بكفاءة وسرعة، بل وبصوت نختاره نحن. الكتب؟ لم تعد حلمًا بعيدًا. مكتبات إلكترونية متاحة مثل “Bookshare” و”كتارا للمكفوفين” توفر آلاف الكتب بصيغ ناطقة أو بطريقة برايل الإلكترونية. نستطيع اليوم أن نقرأ ونناقش ونتثقف كما نشاء نحنُ ، وكيفما نريد ويُشاء لنا ، دون أن نطلب من أحد أن يقرأ لنا بصوت مرتفع. أما التنقل، فحدث ولا حرج. أصبحت هناك عصيّ ذكية مزودة بأجهزة استشعار، ترصد العوائق، وتوجهنا صوتيًا. تطبيقات مثل “Be My Eyes” و”Seeing AI” تسمح للمتطوعين من حول العالم بأن يساعدونا في قراءة المستندات، أو وصف ما حولنا عبر الكاميرا. حتى الخرائط الصوتية وتقنيات الـGPS جعلت التجول في الأماكن العامة ممكنًا دون الحاجة لمرافق دائم. وفي التعليم، دخلنا الفصول من أوسع أبوابها. الحواسيب المحمولة والأجهزة اللوحية صارت أدوات دراسة لا تقل عن أدوات المبصرين، بل وربما تتفوق، باستخدام برامج مثل NVDA وJAWS وغيرها من أدوات التعليم الصوتي. بات بإمكاننا أن نكتب أبحاثًا، نُجري عروضًا تقديمية، ونشارك في النقاشات الأكاديمية، تمامًا كغيرنا. وفي سوق العمل، لم نعد خارج اللعبة. التقنية مكّنتنا من أن نكون موظفين في الإدارات، ومبرمجين، ومترجمين، ومذيعين، بل وحتى مؤثرين على شبكات التواصل. هناك مكفوفون اليوم يديرون مشاريعهم التجارية الخاصة بهم ، ويتحدثون إلى جمهورهم مباشرة، ويصنعون محتوى ملهمًا ويتفوق على كثيرٍ من المُبصرين ..
لكن .. مع كل هذا التقدم، ما زلنا نواجه بعض العقبات. فبعض المواقع الإلكترونية لا تراعي إمكانية الوصول، وبعض الشركات لم تضع المكفوفين في حسابها عند تطوير تطبيقاتها. كما أن بعض الأدوات المتقدمة ما زالت مكلفة ولا تتوفر للجميع. ولهذا، تبقى الحاجة قائمة لمزيد من التوعية والتكافؤ في إتاحة هذه الأدوات. أختم مقالي هذا بنداء وأمل. إلى كل كفيف، أقول: التقنية ليست ترفًا… إنها حقك، وهي طريقك إلى الاستقلال. لا تخف من تجربتها، ولا تتردد في طلب التدريب عليها. كل يوم يمر يحمل في طيّاته اختراعًا جديدًا قد يكون مفتاحًا لتجاوز صعوبة كنت تظنها مستحيلة.
وإلى المجتمع، أقول: لا تتعاملوا مع الكفيف على أنه عاجز، بل على أنه قادر إذا مُنح الوسيلة. التقنية أعطتنا القوة، ولكن الدعم المجتمعي هو ما يمنحنا الاستمرار. نعم، أنا كفيف، لكنني أرى .. بعد أن أمسكت التقنية بيدي ، فهذه تجربتي بقلمي من أخوكم : عبد الله الكرشم عسيري كفيف يرى الحياة بعين التجربة .. ويكتب بنبض الإرادة .