|

عبد الرحمن المشيقح... رُبان السفينة وسكينة الرؤية

الكاتب : الحدث 2025-04-23 02:04:24

بقلم ـ محمد بن عبدالله العتيّق

في زمنٍ تتسابق فيه الأصوات، وتتعالى فيه الخطابات، يظهر بيننا من يصمت، لا ضعفًا، بل لأن الصمت أبلغ حين يحمله العقل، وتمنحه المواقف صوتًا لا يُنسى.
ذلك هو الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله المشيقح، الربّان الذي لم يكن بحاجة إلى بوقٍ ليُعلن وجوده، بل كانت خطاه على درب التعليم والثقافة والعمل العام هي التي تتحدث باسمه.

بين دفّتي كتاب "السفينة والربان"، لا نقرأ سيرة رجل فحسب، بل نبحر في رؤيةٍ متزنةٍ لقيادةٍ تشبه النسيم: لا تُرى، ولكنها تُحدث الأثر.

رجلٌ سار بسفينته بهدوء وسط أمواج الوطن، لم يلهث خلف المجد، بل صنعه من خلال سنوات من العطاء الصامت، والعمل الدؤوب، والإيمان الصادق بأن النهضة الحقيقية تُبنى على الفكر قبل الفعل، وعلى المبادئ قبل المواقف.
إنه ربّان استثنائي... جمع بين الاتزان والحزم، بين الحكمة والحضور، وبين الحلم الذي لا يغيب، والرؤية التي لا تتزحزح.

في هذا العمل الذي صاغه الدكتور محمد بن حمود الطريقي، بعين المحلل وقلم الأديب، نمضي في رحلة لا تُشبه السير التقليدية، بل نسافر في عمق المعنى، وفي صراع الحكمة مع التحديات، وتوازن القيادة مع تقلبات الدروب.
هي دعوة إلى أن نُصغي لا لسطور تحكي، بل لنبضات تسرد؛ دعوة إلى أن نعيد تعريف القيادة، لا بوصفها سلطة، بل بصيرة ومسؤولية، وجرأة على حمل الوطن في القلب قبل الكتف.
هكذا يبحر الربّان... وهكذا تمضي السفينة بثقة نحو الأفق.

في عمق هذا الكتاب، لا يكتفي المؤلف بأن يحكي عن رجل، بل ينسج من سيرة الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله المشيقح مرآةً ناطقة لقيم القيادة، وصفاء الفكر، ونبل الرسالة.
يقدّم الدكتور محمد بن حمود الطريقي عملًا فريدًا في طبيعته، حيث لا يروي حياة شخصية فحسب، بل يعرض رحلة وعي، خاضها رجلٌ حمل على كتفيه همّ التعليم، ونبض المجتمع، وصوت الوطن.

في رمزية العنوان، تبدو "السفينة" الوطن، أو الفكرة، أو المشروع الكبير... و"الربّان" هو ذلك الذي يقف بثبات خلف الدفّة، لا تفتنه الأمواج، ولا ترهبه العواصف. 

وفي القلب من هذه الصورة، يقف الدكتور المشيقح، كقائدٍ هادئ، صنع مساره دون أن يطلب الأضواء، بل كان النور ينبعث من خطواته.

يتنقّل المؤلف بين محطات هذا الربّان: من أيامه الأولى في التربية والتعليم، إلى مسيرته في التعليم الأهلي، وفي دعم المشاريع الوطنية والفكرية، مرورًا بحضوره البارز في مجلس الشورى، وصوته الذي لا يعلو صخبًا، بل يعلو حكمةً ووزنًا.

الكتاب لا يعرض فقط ما فعله المشيقح، بل يُضيء كيف كان يفعل، وكيف كان يُفكّر، وكيف كانت رؤيته تنبع من جذور عميقة في القيم والانتماء، والإيمان بأن البناء الحقيقي يبدأ من الإنسان.

في طيَّات هذا العمل، نلمح فلسفة القيادة الناضجة، لا تلك التي تطلب المجد بسلطة، بل تلك التي تصنع الفرق بالصبر، والنية، والعمل المتواصل بصمتٍ وسموّ.

هذا الكتاب لا يُقرأ كوثيقة، بل كدرسٍ في الأخلاق، في الوفاء، وفي كيف يكون الإنسان – حين يؤمن برسالته – سفينةً ومرسى وربّانًا في آنٍ معًا.

وحين تطوى الصفحات، لا تُطوى معها الحكاية... لأن بعض السير تظل حاضرة في العقول والقلوب، لا لأنها دُوّنت، بل لأنها عاشت، وغيّرت، وألهمت.

في شخصية الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله المشيقح، تتجلّى صورة ذلك الربّان الذي لم يكن قائدًا لسفينة وحسب، بل كان بوصلة لها... وجهةً... وطمأنينة حين تتلاطم الأمواج.

سار بها على خطى واثقة، لم تغرِه العواصف، ولم ترهبه الرياح، لأنه آمن أن القيادة ليست في الصراخ على سطح السفينة، بل في معرفة عمق البحر واتجاه الريح.

وإذا كان لكل سفينة مرساها، فإن مرسى هذا الربّان كان دائمًا في قلوب الناس، في أثره الذي لا يُنسى، وفي كل يدٍ امتدت بالتعليم، وكل عقلٍ تفتّح بالفكر، وكل صوتٍ وطنيّ تشكّل من نبرة رؤيته الهادئة.

إنها ليست نهاية حكاية... بل بداية إدراكٍ لما تصنعه "سكينة الرؤية" حين تكون بين يدي ربّان حكيم.