|

صراع الحضارات من وجهة قارئ عربي ..

الكاتب : الحدث 2023-02-04 12:01:45

بقلم : عثمان الأهدل …

عندما تتبادر كلمة "حضارة" في أذهاننا تتألق في ظنونا للوهلة الأولى نعيم الحياة و شظفها، أو قد نعتقد أنها رُكامٌ من العقائد كوّنت تلك النمطية من الحياة، كانت سببًا في نهوض أمم سادت عندما وجدت في نفسها مراكز القوة والابداع، بينما تأكلت أمم أخرى إزاء ذيوع الخور والضعف في كيانها واستغراقها في حياة الدعة، وكان لأمتنا الإسلامية كِفلٌ من اخفاقاتها لا يمكن تجهاله بعدما تنكبت وتبلدت أحاسيسها عبر الزمن، ولم تستيقظ من هجعتها إلّا بعد أن غدت في ربقة الاستعمار.

وقد عبر عن ذلك المفكر صامويل هنتغتون في مقالته التي عنونها بـ "صراع الحضارات"، والتي أثارت جدلًا كبيرًا في أوساط مُنظّري السياسة على نطاقٍ واسع، ذكر أن الصرعات ستكون لاختلاف الحضارات التي قد تشكل مظهرًا من مظاهر التضاد تكون سببًا في طغيان الأمم الأكثر وحشية على الأمم الأضعف، تمحوا فيها حضارتها من حيز الوجود، وهو الأمر الذي يجعل أمة الإسلام في مواجهة دائمة مع الغرب على خط النار، إزاء ما تحمله من قيم ومبادئ قد تعيد أمجادهم إن تصالحوا مع دينهم وأعادوا لحمتهم، ولهذا نرى هذه الأيام الهجمة الشرة على قيمها ورموزها تشويهًا حتى لا تقوم لها قائمة.

وفي طبيعة الحال أن أمة الإسلام تمرض ولا تموت، فقد حصل ذلك في غير ذي مرةٍ أن ارتخت عزائمهم وما أن أعادوا تصميم خارطة تفكيرهم بما يلملم شعثهم، عادوا لسؤددهم وصفحات التاريخ خير شاهد على ذلك. وإذا أردنا أن نعرّف الحضارة بأبسط صورها، نستطيع أن نقول هي نتاج الفكر الثقافي والمادي المتراكم لأمةٍ من الأمم، والتي تمنحها خاصيةً مميزة عن الأمم الأخرى، وأهم ركائز الحضارة هي المبادئ التي تشكل الثقافة في مجملها، سواءً كانت مصدرها الدين أو العادات والتقاليد الاجتماعية.
 
ولكي تنمو الحضارة تحتاج إلى أرضية مستقرة، فإذا ما وجد الإنسان الاطمئنان، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها، وإن فتشنا بين صفحات التاريخ لوجدنا أن نهضة المسلمين برزت في عهد الدولة العباسية التي امتد عمرها وساد فيها الاستقرار، ولاسيما في عهد هارون الرشيد. ولهذا يعمد الغرب في بذر الفتن وإشعال فتيل الحروب في مناطقنا لتقويض إستمرار نهضتنا بشتى الوسائل، والاحتلال الإسرائيلي وجد من أجل هذه الغاية، خدمة للصهيونية حضارة النهب والسلب. وقد اماط اللطام الرئيس بايدن ذلك في احدى لقاءاته المتلفزة، إذّ قال ؛" إن إسرائيل هدف استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط ولو لم يكن هناك إسرائيل لأنشأنا إسرائيل أخرى خدمةً للصهيونية ".

ونتيجة للمناجزات على مر العصور تشكلت حضارات جديدة واختفت حضارات عريقة، إما نتيجة للكوارث التي قد تكون على شكل عقاب من الله ؛{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا }، أو نتيجة لهزائم عسكرية، وهذا ما عبر عنه الروائي دان براون، إذّ قال؛ " أن التاريخ دائما ما يقوم بكتابته الفائزون، وعندما تتصادم ثقافتان يتم طمس الخاسر ويكتبُ الفائز كتاب التاريخ، كتابٌ يُمجد قضيته هو وينتقص من الخصم الذي ذاق مرارة الهزيمة"، ولقد رأينا جرائم الاحتلال الغربي لشمال أفريقيا إذّ عزل الشعوب العربية هناك عن منابعها الثقافية، وعمد على نشر ثقافته القاصرة تحت مسمى التطور والتقدم، يساعدهم في ذلك لفيفٌ من المحسوبين على الأدب العربي تنكروا لحضارتهم الربانية خطفهم بريق تقدم المحتل المادي، رغم أن ما قدمه ليس سوى قشور من حضارته ليُبقي الرفعة له، محاولًا نشر الجهل المبطن الذي يجعلهم بعيدين عن ثقافتهم الإسلامية بالقدر الذي يخدم مراميه، ولا سيما لو علمنا أن الجهل هو الأرضية الخصبة لبذر الاستبداد ونموه، وقد ساعد ذلك بالفعل وعمل على تغير أيديولوجية تلك الشعوب حتى أفرغها عن موروثها الحضاري تمامًا.

ولكي نبني حضارة مستمرة وعريقة، علينا أولًا بناء سلوك الإنسان وتصميم خريطة أفكاره وتغذيتها بالمبادئ القيّمة، التي تنبذ التكاسل والتخاذل وسوء المعاملات، وتبديلها بمحاسن الخلق ومحبة الآخرين والتمسك بالقيم، التي تجعل منه منضبطًا في حياته الاجتماعية والعملية، ليشكل وحدة بناء مع مجتمع ينمو كلما امتثل لمبادئه، وقد منحنا الله دستورًا مكتمل الأركان يغطي شتى احتياجات الناس في الحياة، سواءً على المستوى الفردي أو الجمعي، مما جعل الأمم تتكالب عليه خشية المَنعة التي قد يبثها في روح اتباعه، فالدين الإسلامي هو دينٌ متحرك لا يكمن في حالٍ واحد، متكيف عبر الزمن دون أن يفقد خصائصه ودعائمه الأساسية الربانية، ولا سيما أنه دينٌ يحاكي فطرة البشر التي أنبتهم الله عليها. 

ومن جهة أخرى، أن الاستقرار النفسي هو عامل رئيس لتحريك في الإنسان دوافع البحث والتحري والابتكار كأدوات تُكّون حضارة تتراكم عبر الزمن تهتم بالحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وللحفاظ على ذلك فإن الله أمرنا أن نبني جيشًا تواكب قوته آخر التقنيات الحديثة عسكريًا ؛{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. وبناء الجيش هو من مسلمات الدفاع لبناء واستمرارية الحضارة التي قد تكون عرضة للمناجزات، وخصوصًا إذا كانت حضارة نابعة من دين الله مقترنًا بخلافة الأرض؛ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، والخلافة يستحقها لمن يحمل لواء الإسلام وينافح ابتغاء وجه الله؛ {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. 

وظهر أول صراعٌ للحضارات في الحياة مع بدء الخليقة، عندما نصّب نفسه الشيطان عدوًا للإنسان ؛{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، فهو صراع عقائدي مستمر مادمت الأرض باقية حتى يرثها الله وما عليها، سنة كونية لا تنفرط عُقدُها، فيها كرٌ وفر؛ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. حربٌ مستمرةٌ بين حضارة الله  عزوجل وحضارة الشيطان ؛{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ}. 

وأصحاب حضارة الشيطان شئنا أم أبينا هم من يحتكمون بغير ما أنزل الله وإن تعددت مصادره وصوره ؛{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. ففي حقيقة الأمر أن منابع الحكمة في القرآن لا تنقطع حتى لو جعلنا الأبحر مدادًا لكلماته ولو كانت أضعافًا مضاعفةً، يشكل حضارة ربانية مُحكّمة عظيمة لا يماثلها أي حضارة أخرى، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما استطاعوا ؛{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}. 

وثمة بُعدٍ آخر يعمل على نمو الحضارة ينبغي الالتفات إليه والمتمثل في الاكتفاء الذاتي الذي يُعد رافدًا من روافد الاقتصاد، يعمل على توطيد دعائم الحضارة، ولا سيما أن الحضارة أصبحت تقاس لدى الغرب بالثقافة المادية وهي منتجات غزى بها الدول النامية، التي تُصدر مواردها الطبيعة بأسعار زهيدة وتستوردها على شكل منتجات بأسعار باهظة، مما يجعل اقتصادها يتأكل بمرور الوقت، هذا لأنها لم تهتم بالثقافة الأخلاقية ولا بمخرجاتها التعليمة لترفع من الوعي الشعبي، فطغت فيهم ثقافة الاستهلاك، وقد نجح د. محمد مهاتير رئيس وزراء ماليزيا سابقًا في انتشال بلاده من دياجير الظلام بعد أن كانت دولة يعيش شعبها تحت خط الفقر وعلى غواشي التاريخ، إلى أن جعلها قوة اقتصادية خلال فترة قصيرة، رغم شح مواردها الطبيعية، حينما أدرك أن الثروة الحقيقة تتمثل في الفرد كوحدة يستطيع أن يتناغم ضمن منظومة عمل، إن تسلح بأدوات تُمّكنهُ من مكابدة الحياة وتطويعها.

والحضارة إذا اقتصرت على الثقافة المادية البحته فقط، لن تصمد إذا ما ظهرت حضارة أخرى تهتم بالثقافة الأخلاقية والمادية معًا. وهذا متمثلٌ في الحضارة الإسلامية التي عنت بتفاصيل الحياة ومتطلباتها حتى وصل الأمر في أدق تفاصيل يوميات الإنسان من طهارة للبدن وآداب الأكل وحتى معاشرة الزوجة وأخلاقيته، دينٌ مكتمل المعالم لا ينقصه شيء ؛{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. ومن يحمل لواءه يجد العزة والسؤدد وتأتيه الدنيا صاغرة ويبث في نفوس أعداءه مخافته ؛{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ}.

وقد قيل في المثل الشعبي ؛ "إللي ما لهُ أول ما لهُ حاضر ولا مستقبل"، وأولنا هو ديننا الذي رفع من شأن آباءنا، مكّنهم في الأرض ينشرون دينه حيثما حلّو بالتي هي الحسنة على مبدأ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، وهو شرف حاضرنا، وندعو الله أن يهدينا سبُلنا ويغدو مستقبلنا لنقود الدنيا كأولنا. والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.