ابن القرية

بقلم المستشار محمد بن سعيد أبوهتله
في قريةٍ هادئة بين الجبال، حيث تعبق الأرض برائحة الأعشاب العطرية، وتتهامس الأشجار مع الريح، وتجري المياه ببطء في ذلك الوادي الذي تحيط به أشجار الحلف والجراع والبلس (نوع من أنواع التين يسمى الحمط والنبتة الصغيرة يطلق عليها إسم البلس )، ويمضي الزمن على مهل كأنه يروي حكايات الأجداد… هناك وُلدت قصة بدأت بخطوات فتاة يافعة على دروب القدر، تسكن بيتًا من الطين وبه باب كبير يُسمى “الجامع”، وباب صغير يُسمى “السَّلَفة”، وبه والدها شيخ كريم، مضياف، شجاع، الكل يهابه ويلجأ إليه عند الحاجة والضيوف لا يكادون ينقطعون من مجلسه . وهذه الفتاة تنتظر قدرًا مجهولًا، لا تعلم أي رياح ستعصف بها، وأي قدر ينتظرها.
في ذلك الزمن الذي كانت المسافات تُقاس بمشقة الخطى، والفرح يُزرع بالصبر الجميل، وقد شاء الله لتلك الفتاة وهي في مقتبل العمر أن تتزوج شابًا من خارج قبيلتها، لتنتقل معه إلى قريته التي تبعد عن قريتها نحو عشرين كيلومترًا. وكانت هذه المسافة في ذلك الوقت تُعدّ بعيدة، والعمل في القرى شاقًا ومضنيًا، يستمر طوال النهار وأجزاء من الليل، وقد كنّ النساء يستيقظن قبل الفجر بساعات للتجهيز ليوم عمل جديدًا وشاقاً ؛ لذا لم تكن المرأة المتزوجة من خارج قريتها تزور أهلها إلا مرتين أو ثلاث مرات في العام.
وشاءت الأقدار أن تحمل هذه المرأة، وهي لا تزال في السادسة عشرة من عمرها، وفي كل مرة، كان يحدوها الأمل هي وزوجها وأقرباؤهم، أن يكون المولود ذكرًا وخاصةً وأن زوجها رجلاً له مكانة في المجتمع، ومحبوباً لدى الجميع ذو وقار وهيبة .
لكن الأقدار حكمت أن تكون الولادات الأربع الأول بنات، ورغم رضاهم بما قسم الله لهم، إلا أنهم كانوا يتمنون الولد ، وأصبح زوجها يُكنّى باسم ابنته الكبرى.
وقبيل فجر أحد أيام شهر ذي الحجة، وفي النصف الثاني من العقد الثامن من القرن الرابع عشر الهجري، جاءها المخاض، لكنه هذه المرة كان مختلفًا ، أشدّ وأقسى من سابقه، مما اضطرها إلى الانزواء في غرفة جانبية من البيت، كانت مخصصة للأغنام، لكي لا توقظ أو تزعج بناتها الصغار الملتحفات ببطانيات “أم الهدب”.
وعند اشتداد الألم، طلبت من زوجها أن يذهب ليحضر “فلانة”، وهي امرأة أحد أقاربه ذات خبرة في التوليد. طيبة وتحب أن تخدم الجميع ، فخرج الزوج وسط ظلام دامس، وكان الهلال في مرحلة المحاق، والقرية ساكنة هادئة، والناس نائمون. كانت ليلة شتوية باردة، ولم تكن الكهرباء قد وصلت القرية بعد، ومن أراد أن يسير ليلًا يستعين بفانوس يعمل بالقاز والفتيل، وأما الإتريك فكان لا يُستخدم إلا داخل البيوت فقط، وغالبًا في المناسبات.
ولأنه لم يُرِد أن يُوقظ القرية ويزعجهم بالطرق على الباب، التقط حجرًا ورماه على نافذة الغرفة التي ينام فيها صاحب المنزل. ففتح النافذة، والتي تُعرف في القرية بـ “الطاقة”، وقال: “عسى ما به خلاف يا فلان؟” فرد عليه: “أبغى فلانة”، "أبغى تعني أريد "وهي زوجته ، وكانت إمرأة كبيرة في السن، لكنها خبيرة في التوليد. أيقظها زوجها وقال: “قومي بسرعة، فلان عند الباب، ويظهر أن فلانة تولد”. فنهضت على الفور وذهبت معه إلى بيتهم، الذي لا يبعد سوى بضع مئات من الأمتار.
دخلت المرأة غرفة الأغنام، والتي تُعرف بـ”الريشة”، بعد أن أخرج الزوج الأغنام إلى الحوش؛ لتوفير الجو المناسب للولادة. وقامت بمساعدة المرأة في ولادتها، كما يُقال في يومنا هذا: “قابلة”.
وشاء الله أن يكون المولود الخامس ذكرًا.
وهنا، بزغ فجر جديد لتلك الأسرة، بمولودٍ طال انتظاره، سيكون عونًا لأبيه وأمه وأخواته، وعندما استيقظن البنات صباحًا، رأينه ملفوفًا بجانب والدته، (وكانت العادة أن يُلف المولود بـ”الحزايم” وهي نوع من القماش الأبيض الناعم ويُشدّ بخيط يُسمّى “المرير” )وفرحن به فرحًا كبيرًا.
أما القابلة، فمن شدة فرحتها بالمولود الذكر، بشّرت الزوج قائلة: “أبشر برجّال، وأطلبك أن تسمّيه على اسم ولدي محمد”.
فقال الزوج: “أبشري”، وهو رجل مشهور بالحكمة، وقال لي: “بأنه أساسًا كان ينوي أن يسميه (محمد) على اسم والده، لكنه لا يريد أن يكسر خاطرها، فقد بشرته بالولد بعد أكثر من عشر سنوات من انتظاره”.
وسواء كان الولد قد سُمّي على اسم جده الذي لم يره (وكان شيخًا لقبيلته، حكيمًا، عاقلًا، متفقهًا في الدين)، أو على اسم ابن تلك المرأة الطيبة، الذي أصبح ذو مكانة رفيعة في مجتمعه، عُرف بالأخلاق، والكرم، والعلم، فكلاهما مشرفان.
أما تلك المرأة التي رزقت بالولد بعد طول انتظار فقد ربّت أبناءها وبناتها على الاحترام، وكانت تحثهم على أن لا ينادوا تلك القابلة باسمها مجردًا، بل كانوا يقولون: “أمي فلانة”، احترامًا وتقديرًا لها. واستمرت تلك الثقافة لدى أبنائها، حتى وقتنا الحاضر، لا ينطقون اسم تلك المرأة إلا ويُسبق بلقب “أمي فلانة”، رغم وفاتها من سنوات خلت .فرحمها الله وأسكنها فسيح جناته.
وللحكاية بقية بإذن الله ..