|

ميلاد يتجدد في عيون الأبناء

الكاتب : الحدث 2025-12-24 04:17:16

بقلم خليل القريبي 
مستشار إعلامي 

في صباحٍ هادئ من صباحات الثالث من رجب، وبين الطريق المعتاد نحو المدرسة، جاءني سؤال صغير بحجمه، كبير بأثره، التفت إليَّ ابني العضيد مهنا وسألني ببراءة وعمق: ماذا يعني لك هذا اليوم يا بابا؟ قبل أن تكتمل الفكرة في رأسي، سبقني بإجابة حملت الدفء كله: اليوم ذكرى ميلادك الواحد والخمسين، وكل عام وأنت بخير.

توقف الزمن لحظة، كلمات الابن حين تأتي صادقة تتحول إلى مرآة، نرى فيها أعمارنا وتجاربنا ومشاعرنا دفعة واحدة، وفي تلك اللحظة شعرت أن الأبوة امتداد للعمر، وأن السنوات التي تمضي تختصر نفسها حين يتذكرنا الأبناء دون تذكير، ويمنحون الزمن معنى جديدًا. مشاعر الابن في هذا الموقف تتجاوز المجاملة، هي وعي مبكر بالزمن، وانتباه للتفاصيل، وحس إنساني ينمو بهدوء، فأنْ يتذكر ابنك يوم ميلادك، وأن يربطه بالفرح والدعاء، فذلك مؤشر على علاقة بُنيت على الحضور، وعلى لحظات شاركته فيها الطريق والكلمة والموقف، ولله تعالى الفضل والمنة، فالأبناء يتعلمون المشاعر قبل الكلمات، ويختزنون المعاني من أفعالنا اليومية أكثر مما نفعل من الخطب الطويلة. أما مشاعر الأبوة، فتأتي مركبة ومعقدة، فيها امتنان عميق، وحنين غير معلن، ومسؤولية تتجدد مع كل مرحلة، فكونك تبلغ عامًا جديدًا وأنت أب يعني أنك عشت أعمارًا متعددة في عمر واحد: عمر الشاب الحالم، وعمر الباحث عن الاستقرار، وعمر من تعلَّم من الخطأ، وعمر من يرى نفسه في عيون أبنائه.

نصف قرن مضى وكأنه لحظة، تجارب متراكمة، نجاحات تعلِّمنا التواضع، تعثرات صنعت الحكمة، وأشخاص مروا فتركوا أثرًا أو درسًا، ومع كل ذلك، يبقى الأبناء هم العلامة الفارقة، وهم الشاهد الأصدق على أن الرحلة كانت تستحق. في ذلك الصباح، أدركتُ أن العمر قيمة شعورية أكثر من كونه رقمًا، وأن أجمل ما فيه أن يُتَرجَم في ذاكرة ابن، وفي دعاء صادق، وفي طريق قصير نحو مدرسة، يحمل في داخله حكاية عمر كامل.