أحمد الدويحي " الرواية عمل شاق ، وليست مجرد رغبة أو تسلية "
بقلم : نوره محمد بابعير
كانت الكتابة مثل الغناء فيما يكتبُ من القصص القصيرة ، ثم امتلأت به تلك الألحان فأصبح تارة يكتب القصة وأخرى الرواية .
هكذا قالها ..
ويسافر السفر الطويل ، ويستريح لما أراه يجئ مرفرفاً ، يهبط على الأمصار و الوديان وحين يطوف على ليل القرى ، يلقى محبته على الأبواب دون كلام ، ياهدهد الوقت لكل العاشقين . وما برحت معك ، الوذ في بناء معلق السماء .
أحمد الدويحي كاتب روائي كتب القصة و الرواية على حفر اللغة وجمالياتها ، أتقن الكتابة الإبداعية فيها ، متميز بالسرد و الوصف ، يدرك الغاية من أثر اللغة على كتاباتها .
بين السطور دهشة كاتب ..
الكتابة متعة تلامس الذائقة في اختلاق نصوصها وإتقان وصفها ، أحمد الدويحي يشبه الغيمة والمطر منذ بداية الكلمة ثم يبللنا بسرد للقصص وَ الروايات ، تحدث عن بدايتك في الكتابة كيف كانت ؟
يا لجمال هذا الاستهلال المغري للكتابة ، الكتابة الإبداعية فنُ يلامس الوجدان ، يبتدع وجوداً كائناً ، تليق به الحياة ،ويحيا في طقوس يجتاحها الكاتب ، ويتعايش في ظلال فضاء ، يحتضنها ويمنحها سبل البقاء والخلود .
الكتابة السردية جنس أدبي ممتع ، تتدفق مع أولى قطرات ينابيعه المتعة بالضرورة ، فيتخلق وجوده بين أيدينا ، ويجد مذاقه في أرواحنا وأفئدتنا له رواجاً ، ويكتمل نموه بما يضمن له الحياة بشروط الإبداع ، ويحقق كتابة ناجزة في شرطها الموضوعي المتألق .
الكتابة دِربة ، لا تأتي فجأة ، وممارسة تقتنص حضورها ، ووجودها بالتكريس ، وقد بدأتها منذ زمن بعيد ، أشخبط فوق بياض الأوراق ، وحواف الكتب في صالات الدرس ، مرة أرسم وأخرى أكتب حروفاً ، أظنها شعراً أو تأملات لا تعني شيئاً ، دون حقنها برؤية الحدث ، ولكني سرعان ما أنتبهت مع القراءة المكثفة ، ومحاولة محاكاة من يعجبني ، للبحث والتفكير الجدي ، لعلني أجد ذاتي في ما أكتب ، وربما جاءت في مرحلة تالية الكتابة الصحفية ، لتكون ميدان و إرهاصا ، يقود إلى الكتابة المشتهاة .
-بعض المواقف تصنع الحكايات ، هل هناك مواقف ماضية أو حاضرة أثرت عليك وجعلتك تصقل الكتابة الابداعية ؟
وهل يكتب الكاتب من فراغ ، أو يكتب بلا تجارب ؟ ، حينئذ ستكون كتابة هامشية ، وكتابة عبثية لا تستند إلى أي منطق ، ولا تخضع إلى أي فلسفة ، وبلا تأويل محتمل ، ويأتي نقيضها الكتابة الجادة التي ، تبنى على مداميك متينة من التجارب الحياتية والقرائية .
والكتابة الجادة لأبد يكون لكاتبها معامل وخزائن ثرية التجارب ، وساحات شاسعة من التأملات ، ورؤية صائبة ، وعين مدربة على فحص الكائنات والأشياء والأحداث ، وكأنها عين جواهرية المعادن الثمينة ، ولابد للكاتب يوطن ذاته على التلقي ، ورصد كل ما يمر به ، ويختزنه في معمله الذاتي ، وقد تكون هناك أحداثاً عامة ، تؤثر على المجتمعات كالحروب ، وتدخل في صميم الكتابة الإبداعية ، وتلك من الأحداث التي دخلت في تفاصيل كتابتي الروائية ، وحتما تم توظيفها في أعمالاً أخرى ، وكل كاتب يشاهدها ويوظفها من زاوية ذاتية .
-القصص و الرواية تعتمد على الكتابة الإبداعية ،سبق تحدثت عن القصة القصيرة توصف السرد الفردي والرواية تُوصف الجمع و المجتمع ؟ تحدث عن أيهما أقوى في النصوص وأين وجد نفسه أحمد الدويحي في القصة أو الرواية ؟
القصة والرواية أجناس أدبية ، لأبد ندرك أن كل جنس أدبي له خصوصية ، ويؤدي دوراً يختلف عن أي جنس أدبي أخر ، وكل جنس أدبي يحضر حسبما تكون الحاجة ، أي يتم التعبير بجنس أدبي محدد عما نريد ، بما يكفي عن الحالة والغاية .
القصة القصيرة هذا الجنس الأدبي الأثير ، اللماح ، الممتع ، المراوغ ، الميال إلى التكثيف في المشهد ، الوامض في لغته ، وزمانه ، وشخوصه ، الحميمي الدافئ في دلالاته ، كتبتها في بداية تجربتي السردية ، وأصدرت عملين ، هما ( البديل ) و ( قالت فجرها ) ، ولم أتوقف عن كتابة القصة ،ظللت أكتبها بين حين وأخر ، حينما أجدني مزدحما بنص قصصي يلحً في كتابته ، وبالمناسبة أنا من الذين تكتبهم نصوصهم بالذات القصة ، لأنها تأتي إشارة سريعة ، تستدعي ولادتها حتى لو عشت بها محملاً بها زمناً .
طبعا - كتبت الرواية ، وأصدرت تسع روايات بما فيها ثلاثية المكتوب مرة أخرى ، وكتبتها بكثافة وملت إليها ، لأنها فنُ شمولي ، تغوص في مفاصل حياة المجتمع ، وتلتقط كل التفاصيل الدقيقة ، الرواية فن مواز للواقع ، فن الكشف ، الفن الذي تدخل في نسيجه كل الفنون ، والرواية تريد أن تذهب إلى الداخل السري، لتكشف الوجوه الأخرى لشخوصها وتعريهم ، وتختبر جملة من الأطروحات ، وتمتحن أخرى من الافتراضات التي جاءت من الخيال؟!
-غالبًا حينما يسأل الكاتب عن علاقته بالنص ، تكون الإجابة الكاتب يكتب النص وفي حال انتهاء النص يتحول إلى عالم النسيان ، ما رأيك انت وكيف علاقتك مع الكتابة ؟ وهل هناك طقوس للكتابة تساعدك في الانغماس نحوها ؟
قد أتفق مع الحالة العامة الواردة في السؤال ، ولكني أختلف في التفاصيل ، بمعنى انفصال الكاتب عن الكتابة عند الانتهاء من كتابة النص ، فكتابة النص تشبه حالة الولادة ، قد يعيش الكاتب بعدها حالة مخاض ، لكنه لا ينسى الوليد الجديد ، بل يتولاه بالرعاية والتشذيب والتهذيب ، ليكون في الصورة التي يرضى بها ، والمبدع لا ينسى نصه فهل ينسى الشاعر قصيدته ، والرسام تفاصيل ولون لوحته ، والقاص تفاصيل قصته ؟
باختصار ، المبدع لا ينفصل عن نصه ولا ينساه ، النص يظل جزء من الكاتب ، فقد تشكل من نسيجه الروحي والوجداني ، أعرف كتاباً روائيون مبدعون ، كانوا يحفظون رواياتهم ، ومنهم الراحل عبد الله بامحرز ، ويحيى الطاهر عبد الله رحمهم الله .
طقوس الكتابة تختلف من مرحلة لمرحلة ، والكاتب يكيف ما حوله مكاناً وزماناً ، ليعيش طقساً كتابياً مبهجا ، يبعث على التماهي مع الحالة الكتابية ، وتجربتي شاسعة في هذا المجال مع طقوس الكتابة ، لا يليق بي تحنيطها في طقس محدد !
الخبرة في الكتابة الإبداعية ..
-القارئ يبحث عن المعرّفة ، القصة و الرواية تبحث عن المخيلة و الوصف و اللغة أحمد الدويحي ماذا يبحث حتى يتقن الكتابة ؟
نبحث عن كل هذا وزيادة ، كتابة الرواية بالذات أصر على التراكم المعرفي ، وكم هائل من التجارب في خزان العمر ، لنتمكن من كتابة روائية ناجزة ، طبعاً ذلك لن يتم إلا بالقراءة المكثفة ، والاطلاع على تجارب الأخرين ، وامتلاك قدر كافي من المعرفة اللغوية ، والجمالية الأسلوبية ، وكيفية البناء الروائي مع المحافظ على ، تنامي الحدث والتشويق والكشف المدهش .
الرواية عمل شاق ، وليست مجرد رغبة أو تسلية ، أو للبحث عن الوجاهة والشهرة ، الرواية فن رفيع ومغامرة شاسعة، تحتاج إلى خبرات حياتية ومعرفية وليست لعبة، وصحيح أن البحث عن الشهرة ، ودخول التقنية الحديثة العالم الكتابي ، ووجود دور نشر تبحث عن الربح المالي ، بغض النظر عن القيمة الفنية والأدبية الرفيعة، يغرى جيلًا من الشباب ، وسهل لهم دخول هذا العالم الكتابي ، ولست ضد هذا فنحن نحتاج لكل الأنواع الكتابية ، كما نحتاج إلى فرز الغثه من السمين، ويلاحظ أن الظاهرة بدأت تنحصر في السنوات الأخيرة، وبدأ يقل حجم الإصدار الكثيف ، لكننا في نفس الوقت نحظى بأسماء شابة مميزة وموهوبة ، ووجدنا بين أيدينا أعمالاً مميزة ومتجاوزة ، تصب في رصيد المنجز الإبداعي الروائي المحلي
-التجربة مثل الحرث و الفلاح ، كلّما تلقيتها بعقلانية واعية تتسع مدارك العقل فيها تحدّثت أن كانت الكتابة في أوائل تجاربك مثل المهنة أدت غرضها لك في ذلك الزمن ، لديك عدة تجارب بين مقالات أدبية ونقدية ومحررًا وكانت أطول تجربة لك في جريدة الرياض ؟ تحدث عن هذه التجربة وماذا أضافت لك ؟
أشرت إلى هذه الجزئية عرضاً ، وجاءت في إجابة سابقة ، حينما أشرت إلى الاستفادة من الحياة الصحفية ، وسأرى التجربة من زاوية أخرى ، فالحياة الصحفية فتحت أبواباً لم يكن ممكناً ، الولوج عبرها بغير مهنة الصحافة ، فقد عرفتني على لغة السفر الدائمة ، المفردة التي أعشقها وعبرت عنها كثيرا ، وفتحت لي مدناً لم أكن لأصلها ، لولا العمل في مهنة تتسم بالمغامرة ، وأجلستني في مقاعد ومع شخصيات ، لم أكن أحلم بمعرفتها ، ولكنها في نفس الوقت سلبت مني أشياء ثمينة ، وأولها لغتي التي لم تعد بكراً ، وفقدت عذريتها لكثرة ما تداولتها ، وأفقدتني الزمن الذي لم يعد ملكي ، وفي كل الأحوال لقد تنقلت بين صحف كثيرة ، وكتبت في شتى المجالات لأني ملك الصحيفة ، وخير ما فعلت أني في لحظة معينة ، اتخذت قراراً مصيرياً بعد سنوات طويلة ، عملت في مهنة صاحبة الجلالة ، فطلقتها نهائياً بالثلاث بلا عودة .
-يستثمر القارئ معرفته مما يقرأ للكتب ، وماذا عن الكاتب من أين يستثمر الكتابة في الرواية ؟
أيضاً أشرنا إلى هذه الخاصية عبر إجابات سابقة ( ويمكن حذف السؤال والجواب ) فالكاتب قارئ أيضاً ، ولكن الواقع هو ميدان تجربته الكتابية ، وهو الموازي حتماً لعالمه الكتابي ، وكل كاتب لأبد يتخذ من هذا الواقع عجينة ، يشكل منها عالمه ونماذجه .
-العبّارة تشكل للمعنى قيمتها ، تحدث الكاتب فهد العتيق عن القصة و قال " قد تكون فصل رواية والرواية قد تكون مجموعة قصص بينها وحدة انطباع. الفرق المبالغ فيه موجود فقط في أذهان تجاوزتها المرحلة " ما رأيك في القصة ؟ وكيف يرى الفرق الفاصل أحمد الدويحي اتجاههما ؟
أتفق مع ما ذهب إليه الصديق الزميل فهد العتيق ، فقد تؤدي قصة قصيرة دوراً لم تبلغه الرواية ، وقد تكون مجموعة قصصية منتقاة ، يربط بينها خيط رفيع تشكل رواية ، ولكنها قصص في جنسها الأدبي ، ويربط بينها دلالات ومعنى وخطاب واحد مشترك يجمعها .
وبالمناسبة فالقصة القصيرة ، إحدى الفنون التي تدخل في النسيج الروائي ، مثلها مثل فنون أخرى تشكل فضاء الرواية .
جماليات كاتب تبلل بالقصة و الرواية ..
-بين النقاد والنص علاقة الإصلاح و الإفساد ، هناك نقاد غايتهم الاصلاح لقوة النص من خلال سرد الملاحظات والاخر قد يكون محاولة شكوك بالنص وقيمة سرده فيه ، تحدث عن النقد من وجهة نظرك ؟ وكيف يفعل النقد إصلاح النص ورد اعتبار قوته ؟
النقد نشاط أدبي فكري مواز للإبداع ، وليس مكملاً له كما يعتقد البعض ، مشهدنا الأدبي يفتقد للمتابعات القرائية للأعمال السردية ، كانت بعض الصحف الورقية تقوم بهذا الدور ، وتتكرم بتعريفنا على بعض الإنتاجات الإبداعية ، وتقدم قراءات لها حتى لو لم تصل إلى درجة الكمال ، لكنها كانت تُفي بالغرض ، وتفتح أعيننا على الإنتاج المميز ، الآن تساوى كل ما هب مع ما دب ، وكنت في بداية الطفرة الروائية قي تصريح شهير ، قد توقعت تعقب هذه الطفرة الكتابية الروائية طفرة نقدية كشيء طبيعي ، وتوقعت تأتي هذه الطفرة من جيل جديد ، يتسلح بالمعرفة ويأتي من الجامعات ، والحمد لله صار توقعي في مكانة ، فبتنا نشهد دراسات لدرجات علمية عالية ، ينال أصحابها درجاتهم بدراسة إنتاجات سردية وأحمد الله أن أعمالي حصدت قدر كبير ، ويظهر كل فترة باحث أو دارس في جامعة يرغب بدراسة أعمالي ، وقد أنجزت الأستاذة هند الشقير ، درجة ماجستير في ثلاثية المكتوب مرة أخرى ، وهناك مجموعة دراسات أخرى قادمة لنيل درجات علمية عليا ، وقد فوجئت بأن الدكتور أحمد يحيى علي من جمهورية مصر العربية ، يصدر كتاباً نقديا من نادي الباحة الأدبي ، يتناول خمس من رواياتي بالدراسة الجادة ، وينسبها في مقاربة تطبيقية إلى تيار الوعي ، وهنا سعدت جداً بدكتور منصور البلوي بدراسة جميلة ، لدراسته للرواية السعودية وتصنيفاتها في كتابه المهم جداً ( المرايا المتعالية ) بأن ، قدم دراسة تفصيلية رفيعة عن روايتي منابت العشق .
-بين عضوياتك في نادي القصة لجمعية الثقافة والفنون وبين مؤسس و فاعل جماعة السرد بالرياض و بين المؤلفات والمقالات ، تنوعت في الكتابة كيف كانت إدارتك معها وماذا تحتاج القصة و الرواية حتى تؤدي نجاحها ؟
الكتابة بعمومها تحتاج فضاء صحي ، يمنح الكاتب راحة وحرية في مزيد من الإبداع المتألق والمبهج ، المؤسسات الثقافية والتجمعات الأدبية ، خلقت فضاءات جميلة لكتاب السرد ، وبالذات جماعة السرد التي تشرفت بإدارتها ، وهي جماعة تشكلت خارج المظلة الرسمية ، وسرعان ما وجدنا لنا مكاناً في نادي الرياض ، لكي يضاف نشاطنا إلى نشاط النادي ، ثم كنا قدوة لجماعات أخرى مماثلة في مدن المملكة . تلك كانت مرحلة لها ظروفها ومسوغاتها ، أعتقد بأن الزمن تجاوزها ، وأصبحت في ذمة التاريخ الأدبي .
-بين الواقع و بين المخيلة ، أختار أحمد الدويحي الدمج بينهما في كتابة القصص و الرويات ،كانت مدن الدخان أدت صداها من خلال قرائها ، ما الذي يجعل الكتابة تنجح الفكرة أو طريقة الأسلوب في سردها ؟
الواقع عالم مواز للخيال الروائي ، ولأبد من كلاهما لتكتمل الرؤية الكتابية ، ولكي ينتج عمل كتابي ما ، فلأ بد تكون الفكرة حاضرة ووجيهة ، لكي يمتحن الكاتب قدرته في توضيح فكرته ، والدفاع عنها بأسلوب مشوق ، ولغة توصيل قادرة ويليق التعبير بها .
وسأحكي شيئاً عن رواية ( مدن الدخان ) لأول مرة ، فأنا كنت أعمل في مطلع شبابي منتيراً ( لفظة فرنسي ) ، وهي مهنة يعرفها كل من يشتغل بالإنتاج التلفزيوني والإخراج ، وكنت أقوم في بداية عمل التلفزيون السعودي ، بحذف وإعادة اللقطات التي يؤشر عليها الرقيب بالمنع ، حينما تتم محاصرة ثلاثي (التابو ) الجنس والدين والسياسة ، وأظن أني استفدت فنيًا من هذه المهنة ، وربما كانت إفادة لخلق كتابة أخرى مغايرة .
